كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذن فلم يكن الأمن في المدينة- حتى على فرض وجوده كاملًا غير مهدد- لينهي مهمة المسلمين هناك؛ وينهى عن الجهاد!
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر؛ والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والكلمة الأخيرة- سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له- والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض؛ ومهمته هو- المؤمن- بوصفه قدرًا من قدر الله، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة.. لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير؛ ويعجب منه هذا التعجيب! وينفر منه هذا التنفير.
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين- في مكة- بالانتصار من الظلم؛ والرد على العدوان؛ ودفع الأذى بالقوة.. وكثيرون منهم كان يملك هذا؛ فلم يكن ضعيفًا ولا مستضعفًا؛ ولم يكن عاجزًا عن رد الصاع صاعين.. مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة.
أما حكمة هذا، والأمر بالكف عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال.. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته؛ فيفتن عن دينه. وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته.
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها. لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة؛ ونفرض على أوامره أسبابًا وعللًا، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية. أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة.. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف. أو أي حكم في شريعة الله- لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا- فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه.. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال. ولا يجزم- مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله- بأن ما رآه هو حكمة؛ هو الحكمة التي أرادها الله.. نصًا.. وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله. ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة.
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة.. نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب.. على أنه مجرد احتمال.. وندع ما وراءه لله. لا نفرض على أمره أسبابًا وعللًا، لا يعلمها إلا هو.. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب.
اجتهادية.. تخطئ وتصيب. وتنقص وتزيد. ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله. وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
أ- ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد؛ في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محورًا لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته.. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج. ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. وتربيته على أن يتبع مجتمعًا منظمًا له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره- مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة؛ المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
ب- وربما كان ذلك أيضًا، لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ، في مثل بيئة قريش؛ ذات العنجهية والشرف؛ والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس- أعوامًا طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها- وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدًا. ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبدًا!
ج- وربما كان ذلك أيضًا، اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولًا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و«يؤدبونه»! ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وكل محلة؟
د- وربما كان ذلك أيضًا، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.
ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟!
هـ- وربما كان ذلك، أيضًا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعًا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة- فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته... وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
و- وربما كان ذلك أيضًا، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة. حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف.. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة. ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظامًا واقعيًا عمليًا للحياة.
ز- في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى. لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائمًا- وقتها- ومحققًا.. هذا الأمر الأساسي هو وجود الدعوة.. وجودها في شخص الداعية صلى الله عليه وسلم وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم، إذا هي امتدت يدها إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان شخص الداعية من ثم محميًا حماية كافية.. وكان الداعية يبلغ دعوته- إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا؛ وفي اجتماعات عامة.. ولا يجرؤ أحد على سد فمه؛ ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه؛ ويسكت عن بعضها. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف.
وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت. وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا. أي أن يجاملهم فيجاملوه؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته، لم يدهن... وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل، في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم محروسًا بسيوف بني هاشم- وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة.. ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة.
هذه الاعتبارات- كلها- فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله- معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب. وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ. لتكون خالصة لله. وفي سبيل الله.. والدعوة لها «وجودها» وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة.
وأيًا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
{فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب}.
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ فيه حالة من الخلخلة وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد- على كل ما فيها من مشقة- بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضًا. ولكن في موضعها المناسب. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية. أما الحماسة قبل الأمر، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور؛ يتبخر عند مواجهة الخطر!
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا. أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}.
إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة. ويتمنون في حسرة مسكينة! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت؛ ومد لهم- شيئًا- في المتاع بالحياة!
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل.
{قل متاع الدنيا قليل}.
متاع الدنيا كله. والدنيا كلها. فما بال أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير. إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا؟! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين.
ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل!؟
{والآخرة خير لمن اتقى}.
فالدنيا- أولًا- ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة.. إنها مرحلة.. ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع- فضلًا على أن المتاع فيها طويل كثير- فهي {خير}.. {خير لمن اتقى}.. وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها. التقوى لله. فهو الذي يتقى، وهو الذي يخشى. وليس الناس الناس.. الذين سبق أن قال: إنهم يخشونهم كخشية الله- أو أشد خشية!- والذي يتقي الله لا يتقي الناس. والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدًا. فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد؟
{ولا تظلمون فتيلًا}
فلا غبن ولا ضير ولا بخس؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا. فهناك الآخرة. وهناك الجزاء الأوفى؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعًا!
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه- مع هذا كله- إلى أيام تطول به في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير.. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة!